رسخ فهم عند جميع المسلمين على أن المسجدالأقصى سمي بالأقصى؛ لبعده عن المسجد الحرام،
واللذان جاء ذكرهما في أول سورة الإسراءفي قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِالْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُمِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) الإسراء.
ولما كان هناكقصور في دراسة جذور اللغة لفهم مشتقاتها، وما بني منها، انع... ذلك القصور على فهم معنى الأقصى على غير حقيقته.
والشيء المقصيُّ يظل بعد إبعاده أمام الأعين ولا يغيب عنها ..
. وقد جاء استخدام مادة (قصو) في خمس مواضع في القرآنالكريم، الذي بني على الإعجاز اللغوي، وقبل الإشارة للمواضع الخمسة لبيان دلالة معنى (القصو) فيها نقول:
- أنالناقة القصواء : هي الناقة التي أقصاها صاحبها عن الخدمة، ولم يرسلها للمرعى لفضلهاعنده، وإعزازًا منه لها، لتبقى أمام عينيه لا تغيب عنهما، ولتظل تحت رعايته... وقد كان للرسول صلى الله عليه وسلم ناقة بهذا الاسم.
- الموضع الأول: (إِذْ أَنْتُمْبِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَمِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْلِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْبَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌعَلِيمٌ(42) الأنفال
سمي موضع المشركين يوم بدر بالعدوة القصوى لأن المسلميننزلوا أدنى ماء من القوم في بدر قبل وصولهم، وبنوا عليه حوضًا، ليشربوا هم منه وحدهم، ولا يشرب الكفار منه،وعوروا بقية العيون خلفهم؛ أي أفسدوها، فأقصى المسلمون بذلك الكفار عن الماء، وحرموهممنه، وقد أقسم بعضهم ليشربن من ماء الحوض، وكان أمام أعينهم، فقتل دونه، قبل أن يصلإليه، ويشرب من مائه، إلا حكيم بن حزام الذي كان يقسم بعد إسلامه فيقول: والذي نجاني يوم بدر.
- الموضع الثاني: (فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًاقَصِيًّا(22) مريم، أي في مكان بعيد لم يغب عن ناظر القدس (في بيت لحم أو فيمكان مواجه قريب من القدس إن كان حقيقة تعبد مريم قبل ولادته في بيت المقدس)، وذلك لتبتعد عن شر اليهود الذين سيتهمونها بالزنا حتىيقضي الله أمره بينهما، والمرأة الحامل لا تستطيع أن تقطع مسافة بعيدة وهي في المخاض.
- الموضع الثالث: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَاالْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَمُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَلِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ (20) القصص ... جاء من حيثيسكن فرعون؛ أي في طرف المدينة؛ حيث أقصى مسكنه عن قومه حتى لا يخالطهم، وكيف يخالط مدعيالألوهية عبيده! .
- الموضع الرابع: ( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌيَسْعَى قَالَ يَقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) يس
فمن لم يجد له مكان فيوسط المدينة يسكن فيه، وقد سبقه الناس إلى وسطها، سكن في أقصاها، أي في طرفها، حيث يتخذ له سكنًا يؤويه.
- والموضع الخامس : هو آية الإسراء -المذكرة في أول الموضوع-، وإنما سمي المسجد الأقصى بالأقصى لأن الله سبحانه وتعالىأقصاه عن أيدي اليهود، والنصارى،
وكل الملل السابقة، فلم يتخذوه بيتًا، ولا مكانًا لعبادتهم، مع أنهم كانواحوله، وبالقرب منه، وأمام أعينهم، ولو نخل اليهود أرض المسجد الأقصى لما وجدوا أيأثر لهم فيه، والمسجد في الأصل ساحة ظلت خالية عبر العصور الطويلة، محاطة بالأسوار،حتى جاء المسلمون وبنوا في بعضها المسجد الأقصى المعروف بعد فتح القدس، ولعل كان هناكمحاولة من اليهود للاعتداء على ساحة المسجد الأقصى، فأرسل تعالى عليهم نبوخذ نصر،الذي دمر وأنهى علوهم الأول، حتى لا يتمكنوا من تحويله إلى دار عبادة لهم.
وهناك أمر آخر : أن ألف كلمة الأقصا كتبت بالألفالممدودة بدل المقصورة، والقاعدة في ذلك في الرسم العثماني: أن الألف الممدودة تكتبإذا كان الشيء قصير الأجل،ولا دوام له، كالدنيا؛
التي كتبت بالألف الممدودة، ومثال آخر في ذلك لتوضيح هذه القاعدة:
كلمة "طغا"في سورة الحاقة: (إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) الحاقة، لأن هذا الطغيانانتهي بعد زمن قصير؛ (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ..(44) هود،
وكتب الفعل "طغى" بالألف المقصورة في المواضع الخمسة الباقية، لأن أهل هذا الطغياناستمروا على طغيانهم حتى لاقوا الله، وهم على ذلك؛ ليحاسبوا عليه، وهناك أمثلة أخرىعديدة غير ذلك ...
.وقد أقصا الله تعالى المسجد الأقصى عن العبادة، لأنه لم يكن هناك إلا اليهود والنصارى، وقد وضعه الله تعالى للمسلمين، وحتى أن تسمية القدس بأورشلم أو أورسلم، -واليهود يقلبون السين إلى شين-؛ معناها عند تحليلها اللغوي: بلد الإسلام القادم الذي لم يظهر بعد؛ أي لم يظهر في زمانهم الأول، وانتهى هذا الإقصاء للمسجد الأقصى عن عبادة الله بعد فتحالمسلمين للقدس في عام (17)هـ، ورقم سورة الإسراء في القرآن هو (17) على ترتيبالمصحف، يوافق نهاية الإقصاء بعد نزول السورة.
وقد قابل تحريم المسجد الحرام على المشركين عامة، إقصاء المسجد الأقصى عن اليهود والنصارى،
وعندما احتل النصارى القدس في الحروب الصليبية، جعلوا المسجد الأقصى مربطًا لخيولهم، ومخزنًا لمؤنهم، وأعلاف دوابهم، ولم يتخذوه دارًا للعبادة، ومن يظن أنه سيقدر أن يفعل ذلك، فسينتهي يوم يعزم على فعله، والله غالب على أمره.
مفهوم تسمية المسجد الأقصا بالأقصا يجب أن يصحح، ويكرر ذكره من غير ملل، حتى يتم ترسيخه في الأمة، مع كثير من المفاهيم التي اشتهرت بين المسلمين بعيدًا عن لغة القرآن الكريم، وبعيدًا عن لغة العرب التي نزل بها القرآن.